مجدي مغيرة :

يغلب على الكثيرين الركون إلى نتيجة معركة واحدة انتصروا فيها أو انهزموا ، فما إن يحقق جيش بلادهم انتصارا كبيرا حتى يسود الاعتقاد بينهم أنهم دائما منتصرون ، وأن تاريخ بلادهم دائما هو تاريخ الانتصارات ، ويستدلون على ذلك بمعارك ووقائع من التاريخ اقتطعوها ورتبوها بشكل يتفق مع مزاجهم النفسي ، ليخرجوا من ذلك بنتيجة ليست نابعة من دراسة تاريخية واقعية بقدر ما هي نتيجة مسبقة صنعها العقل بقصد تثبيتها في العقول ؛ ليرضي بها نظرة الاستعلاء المسيطرة على نفوس الشعب  .

وما يقال على الشعوب وقادة الرأي فيها في حال الانتصار ، يقال أيضا عليهم في حال الهزيمة ، إذ يستقر في نفوسهم بعد الهزيمة أنهم منذ فجر التاريخ شعوب ذليلة خائفة مستعبدة ، لا يقودها إلا مستبد يسوقها سوقا بالسياط والقمع والاستغلال ، وينهب خيرات الشعب ، بل يقررون في كلامهم  أن الشعب لا يستحق إلا ذلك ، فهو شعب لا يصلح معه حاكم عادل ، ويستهزئ بالحاكم الرحيم ، ولكي تقوده وتسيطر عليه ؛ فلابد من السوط والسيف والسجن والقتل ، ولابد من حرمانهم من خيرات بلادهم .

لكن الحقيقة والواقع بعيدٌ عن هاتين النظرتين بُعد المشارق والمغارب !

الحقيقة تقول أن الأيامَ دولٌ ، وأن الحربَ سجالٌ في الصراع القائم بين الناس ، حتى لو كان صراعا بين الحق والباطل .

 وما أحسن قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -  لَمَّا نَزَلَتْ الآية الكريمة من سورة المائدة : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وقد بَكَى عمر لما سمعها ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكَ»؟ قَالَ أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ ديننا، فأما إذا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقُصَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ».

ويلفت نظرنا أيضا جزءٌ من الحوار الذي رواه البخاري في صحيحه بين أبي سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه وبين هرقل امبراطور الروم حينما ذهب أبو سفيان في رحلة تجارية إلى بلاد الشام ، فاستدعاه هرقل عظيم الروم ليسأله عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي نهاية الأسئلة قال له هرقل : " وسألتك هل قاتلتموه ، فزعمت أنكم قاتلتموه ، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تُبْتَلى ، ثم تكون لهم العاقبة" .

وأحداث السيرة النبوية تؤيد ذلك ، فقد كانت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - تتقلب بين انتصار وانكسار ، وحزن وسرور ، وآمال وآلام ، وكذلك في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم رأينا الفتوحات والثورات المضادة ، والإنجازات والإخفاقات .

وقل مثل ذلك في دولة الأمويين ودولة العباسيين ، ويكفيك مثال لذلك سقوط بغداد حاضرة الدولة العبَّاسيَّة وعاصمة الخلافة الإسلاميَّة يوم 9 صفر 656 هـ المُوافق فيه 10 شُباط (فبراير) 1258م على يد المغول ، إذ أعقبها بعدها بعامين الانتصار الكبير الذي حققه قطز على المغول في معركة عين جالوت في25 رمضان 658 هـ الموافق 3 سبتمبر 1260م .

وبينما فتح المسلمون القسطنطينية بقيادة السلطان العثماني محمد الفاتح في سنة 857هـ ، المُوافق سنة 1453م ، سقطت بعده الأندلس بحوالي أربعين سنة سقوطا نهائيا  وذلك في عام 897 هجرية ، الموافق يوم 2 يناير 1492م .

ويحلو للبعض دائما الحديث عن مأساة الأندلس الفردوس المفقود ، وينسون أساطيل المسلمين البحرية التي انتقمت لهم على مدى قرنين من الزمان ، إذ أصبحت الكثير من السواحل الإيطالية والإسبانية خالية من سكانها بسبب غارات المسلمين المتتالية ، ووقع ما بين مليون إلى مليون وربع مليون أوروبي في أسر البحارة المسلمين المجاهدين ، وتم بيعهم كعبيد في شمال أفريقيا والإمبراطورية العثمانية بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر ، وبسبب تلك الغارات ظلت أوربا أكثر من قرنين وهي تعيش في ظلام دائم ، وكساد تجاري كبير ، بينما انتعشت بلاد شمال أفريقيا وخصوصا تونس والجزائر بسبب تلك الغارات .

أيضا في عصرنا يحلو للبعض الحديث عن فشل الإخوان المسلمين ، بسبب انكسارهم عقب الانقلاب العسكري عليهم عام 2013م ، لكنهم نسوا الإنجازات الضخمة التي قدمها الإخوان للأمة في كل مجالات الحياة ، ونسوا كذلك أنه رغم ما أصاب الإخوان ، إلا أن التقارير الموضوعية الغربية والعربية البعيدة عن الأغراض الدعائية قد قررت أن الإخوان – رغم ما أصابهم – إلا أنهم مازالوا رقما صعبا في حياة المسلمين ، ويستحيل إبادتهم ، أو إبعادهم عن المشاركة في الحياة العامة في بلاد المسلمين ، بما فيها الدول التي سعت إلى القضاء عليهم كما هو حال مصر الآن .

إذن تاريخ  الأمم والجماعات يتراوح بين نصر وهزيمة ، وبين علوٍ وهبوط ، ولا انتصار دائم لأحد ، أو هزيمة دائمة لأحد ، ولذلك وجدنا القرآن الكريم يحث المسلمين على عدم الاستسلام لليأس في حال الضعف والهزيمة ، فبعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد نزلت الآيات الكريمة تستنهض عزيمة المسلمين ، كما في سورة آل عمران : " إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)" ،وكذلك في سورة النساء : " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" ، وانظر إلى يعقوب عليه السلام وقد غاب عنه ابنه يوسف أربعين عاما ، ومع ذلك يقول لأبنائه :" يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) " .... لا تيأسوا .... ولا تصدقوا من يسعى إلى تثبيطكم ، بل انظروا إلى وعد الله الذي دائما لا يخلف الميعاد ، وتيقنوا أن ليس بعد الانكسار إلا الانتصار .
 

 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر